فصل: مسألة يتنفل فيتعيا بالقرآن أفيقف فيفكر أو ينصرف يسلم وينظر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة النفر يكونون بموضع ليس عليهم إمام يجمعون الجمعة:

وسئل عن النفر يكونون بموضع ليس عليهم إمام، يجمعون الجمعة؟ فقال: إن لم يكونوا أهل عمود جمعوا، إنما يكون الجمع على أهل القرى. فقيل له: فإن لم يؤمر عليهم؟ فقال: إي والله وإن لم يؤمر عليهم ربما صلى أبو المثنى الجمعة بالناس بغير أمر الإمام، يمرض الإمام أو يموت أو تصيبه علة.
قال محمد بن رشد: قوله: وإن لم يكونوا أهل عمود جمعوا، ظاهره خلاف ما في أول رسم من سماع عيسى أن الخصوص والمحال إذا كانت مساكن لأهلها كمساكن القرى في اجتماعها، لم يحل لهم أن يتركوا الجمعة، وعلى ذلك كان يحملها الشيوخ عندنا، ويحتمل أن يكون أراد بأهل العمود في الرواية الذين ينتجعون الكلأ ولا يستقرون بموضع، فتتفق الروايات ولا يكون بينها تعارض. والأظهر أن ذلك اختلاف من القول، وأن لا جمعة على أهل العمود؛ لأن الأصل أن الظهر أربع، فلا ينتقل عن ذلك إلا بيقين وهو المصر؛ لأنه المتفق عليه؛ لأنه أصل ما أقيمت الجمعة فيه، فوجب أن لا يجمع إلا في المصر أو فيما يشبه المصر من القرى التي فيها الأسواق والمساجد؛ إذ قد اشترط ذلك مالك في بعض الروايات عنه. وأما الوالي فليس من شرائط إقامة الجمعة عند مالك، وقد روي عن يحيى بن عمر أنه قال: الذي أجمع عليه مالك وأصحابه أن الجمعة لا تقام إلا بثلاثة: المصر، والجماعة، والإمام الذي تخاف مخالفته، وهو قول عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ روي أن قوما أتوه فسألوه أن يأذن لهم في الجمعة، فقال: هيهات، لا يقيم الجمعة إلا من أخذ بالذنوب وأقام الحدود وأعطى الحقوق. وفي المبسوط لمحمد بن مسلمة أنه لا يصليها إلا سلطان أو مأمور أو رجل مجمع عليه، وهو قريب من ذلك كله خلاف المعلوم من مذهب مالك في المدونة وغيرها، وبالله التوفيق.

.مسألة الصلاة بعد الجمعة في المسجد:

وسئل عن الصلاة بعد الجمعة في المسجد أمكروه؟ فقال: أما الناس فلا، وأما الأئمة فينصرفون ولا يصلون فيه، وقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأئمة ينصرفون إذا فرغوا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في كتاب الصلاة الثاني من المدونة في الإمام أنه لا ينبغي له أن يركع في المسجد يوم الجمعة على إثر صلاة الجمعة، وخلاف قوله فيه في الناس؛ لأنه استحب لهم فيه أن لا يركعوا، ورأى ذلك لهم واسعا إن ركعوا، وخلاف قوله في الصلاة الأول منها؛ لأنه كره لهم فيه أن يركعوا ولى يوسع في ذلك. فتحصل في ركوع الناس يوم الجمعة في المسجد لمالك ثلاثة أقوال: أحدها أنه لا كراهة في الركوع ولا استحباب في الجلوس، فإن جلس لم يؤجر، وإن ركع كان له أجر صلاته كاملا، كما لو صلى في غير ذلك الوقت من الأوقات التي لا تكره فيها الصلاة، وهو الذي يأتي على هذه الرواية، والثاني أن الجلوس مستحب والركوع واسع، فإن جلس ولم يصل أجر على جلوسه، وإن صلى أجر على صلاته، والله أعلم أيهما أعظم أجرا، وهو الذي يأتي على قول مالك في الصلاة الثاني من المدونة، والثالث أن الركوع مكروه والجلوس مستحب، فإن جلس ولم يصل أجر، وإن صلى لم يأثم، وهذا الذي يأتي على ما في الصلاة الأول من المدونة، فالجلوس على هذا القول أولى من الصلاة، والصلاة على القول الأول أولى من الجلوس. وإنما جاء هذا الاختلاف لما روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى الجمعة لم يركع في المسجد حتى ينصرف فيركع في بيته ركعتين» فاحتمل أن يكون هذا من فعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصا للأئمة، واحتمل أن يكون عاما لجميع الناس، بدليل ما روي أن ابن عمر رأى رجلا يصلي ركعتين بعد الجمعة، فدفعه وقال: أتصلي الجمعة أربعا؟! وقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كان مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا»، فاستحب بعض العلماء أن يصلي بعد الجمعة أربعا وكره أن يصلي بعدها ركعتين؛ ليجمع بين الحديثين، والله أعلم بالصواب.

.مسألة أوتر بالناس في رمضان أيسلم بين الاثنتين والواحدة:

وسئل عمن أوتر بالناس في رمضان، فقال: لو كنت صانعه لم أسلم بين الاثنتين والواحدة؛ لأن بعض الناس قد قالوا: يوتر بثلاث، وإنه ليقال: إن معاذا القارئ كان يوتر بثلاث يفصل بين الاثنتين والواحدة.
قال محمد بن رشد: كذا وقعت الرواية: لو كنت صانعه لم أسلم بين الاثنتين والواحدة، وحكاها ابن حبيب: لو كنت صانعه سلمت بين الاثنتين والواحدة، على ما يوجبه مذهب مالك رَحِمَهُ اللَّهُ. والصحيح في الرواية: لم أسلم بين الاثنتين والواحدة، بدليل اعتلاله لذلك بقول الذين قالوا: إنه يوتر بثلاث، فأراد أنه لو أوتر بثلاث لا يفصل بينهن لما خالف فعله في ترك الفصل؛ إذ من الناس من يقول ذلك. وهذا نحو قول ابن القاسم في رسم لم يدرك من سماع عيسى في الذي يدرك الإمام في آخر ركعة من الوتر، وهو ممن لا يسلم أنه يضيف إليها ركعتين بغير سلام، ونحو قوله في الواضحة فيمن فاتته الركعة الأولى من شفع الوتر، والإمام ممن لا يفصل بين الشفع والوتر أنه لا يسلم مع الإمام إذا سلم من الوتر، ويقوم إلى الثالثة دون سلام لئلا، يخالف فعل الإمام في ترك الفصل بالسلام وإن كان قد فارقه في الوتر، إذ لم يدخل معه في أول الشفع خلافا لابن مطرف وابن الماجشون في قولهما: إنه يسلم مع الإمام إذا كان الإمام ممن يفصل أو لا يفصل؛ إذ قد فارقه ولم يدخل معه من أول الشفع. وقد اختلف الناس في الوتر، فقيل: إنه ركعة واحدة، وقيل: إنه ثلاث ركعات لا يفصل بينهن بسلام، وقيل: إنه ثلاث ركعات يسلم في الاثنتين منهن وفي آخرهن. وذهب مالك إلى أن ركعة واحدة عقب شفع أدناه ركعتان على ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية ابن عمر قال: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى»، وبالله التوفيق.

.مسألة مس الذكر أتعاد منه الصلاة:

وسئل عن مس الذكر أتعاد منه الصلاة؟ فقال: لا أوجبه، وأبى، فروجع فيه فقال: يعيد ما كان في الوقت وإلا فلا. قال سحنون: لا أرى على من مس ذكره وصلى إعادة، لا في وقت ولا في غيره، ولقد قال لي ابن القاسم غير مرة: إن إعادة الوضوء عندي من مس الذكر ضعيف.
قال محمد بن رشد: هذا كله من رواية أشهب عن مالك، وقول سحنون وروايته عن ابن القاسم يرجع إلى أن مس الذكر لا ينقض الوضوء بحال، خلاف ظاهر ما في رسم الوضوء والجهاد من سماع أشهب من كتاب الوضوء. ورواية ابن وهب عن مالك في سماع سحنون منه في الفرق بين أن يمسه عامدا أو غير عامد قول ثالث، وإليه ذهب ابن حبيب. وقد مضت هذه المسألة موعبة في رسم اغتسل على غير نية من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء، فقف على ذلك، وبالله التوفيق.

.مسألة وقت الدم:

قال: وسئل عن وقت الدم، فقال: ليس له عندنا وقت، فقيل له: فقليله وكثيره سواء؟ فقال: لا، ولكن لا أجيبكم إلى هذا الضلال، إذا كان مثل الدرهم، ثم قال: أرأيت إن كان الدرهم من هذه البغيلة، الدراهم تختلف تكون وافية كلها وبعضها أكبر من بعض.
قال محمد بن رشد: تكررت هذه المسألة في هذا السماع من كتاب الوضوء، ومضى القول عليها هناك بما أغنى عن إعادته.

.مسألة الإمام يكبر في العيدين على المنبر:

وسئل عن الإمام يكبر في العيدين على المنبر، أيكبر الناس بتكبيره؟ فقال: نعم، فقيل: أفينصتون كما ينصتون يوم الجمعة؟ فقال: نعم.
قال محمد بن رشد: قوله: إنهم يكبرون بتكبير الإمام، يريد سرا في أنفسهم، وذلك حسن وليس بواجب، قال ذلك في الحج الأول من المدونة، وهو مفسر لما هاهنا. وقد مضى القول في وجوب الإنصات في خطبة العيدين، وما في ذلك من الاختلاف في أول هذا السماع وفي رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة من لم يسمع قراءة الإمام للفاتحة أيقول آمين:

قال ابن نافع عن مالك: ليس على من لم يسمع قراءة الإمام أن يقول آمين إذا قال الإمام: ولا الضالين.
قال محمد بن رشد: قوله: ليس ذلك عليه، يدل على أن له أن يقوله وإن لم يكن ذلك عليه، بأن يتحرى الوقت كما يتحرى المريض الذي ترمى عنه الجمار وقت الرمي عنه فيكبر. وذهب محمد بن عبدوس إلى أن ذلك عليه، وذهب يحيى بن عمر إلى أنه لا ينبغي له أن يفعل ذلك، فهي ثلاثة أقوال، أظهرها قول يحيى؛ لأن المصلي ممنوع من الكلام، والتأمين كلام أبيح للمصلي أن يقوله في موضعه، فإذا تحرى قد يضعه في غير موضعه.

.مسألة أدرك الإمام يوم الجمعة ساجدا فلم يسجد معه في الركعة الآخرة:

قال: وسئل عمن أدرك الإمام يوم الجمعة ساجدا فلم يسجد معه في الركعة الآخرة، أيقيم الصلاة لنفسه؟ قال: نعم، لا يجزيه إقامة الناس.
قال محمد بن رشد: معنى هذه المسألة أنه لم يحرم مع الإمام، ولو أحرم معه لبنى على إحرامه وأجزأته إقامة الناس، ولم يصح له أن يقيم إلا أن يقطع الصلاة ثم يستأنفها، ولو فعل ذلك في هذه المسألة لأخطأ؛ إذ لا اختلاف في أنه لا يصح له أن يبني فيها على إحرامه، بخلاف الذي قد يجد الإمام ساجدا في الركعة الثانية، فيحرم معه وهو يظن أنه في الركعة الأولى، وقد مضى القول على هذا في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم.

.مسألة يقول في دعائه يا سيدي:

وسئل عن الذي يقول في دعائه: يا سيدي، فكرهه وقال: أحب إلي أن يدعو بما في القرآن وبما دعت به الأنبياء: يا رب، وكره الدعاء بيا حنان.
قال محمد بن أحمد بن رشد: إنما كره الدعاء بذلك للاختلاف الحاصل بين أهل السنة من أيمة المتكلمين في جواز تسمية الله تعالى بسيد وحنان وما أشبه ذلك من الأسماء التي فيها مدح وتعظيم لله تعالى، ولم تأت في القرآن ولا في السنن المتواترة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أجمعت الأمة على جواز تسميته بها؛ إذ منهم من لم يجز أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه أو أسماه به رسوله أو أجمعت الأمة على جواز تسميته به، ومنهم من أجاز تسميته بكل اسم لله فيه مدح وتعظيم ما لم تجمع الأمة على أنه لا يجوز أن يسمى الله تعالى به، كعاقل وفهيم ودار وما أشبه ذلك. وأما الدعاء بيا منان فلا كراهة فيه؛ لأنه من أسماء الله تعالى القائمة من القرآن، قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11].

.مسألة تأخير الصلاة بسبب غسل الثياب:

قال: وقيل لعمر بن عبد العزيز: أخرت الصلاة شيئا، فقال: إن ثيابي غسلت.
قال محمد بن رشد: يحتمل إن لم يكن له غير تلك الثياب لزهده في الدنيا وتقلله منها فلذلك أخر الصلاة شيئا بسبب غسلها، أو لعله ترك أخذ سواها مع سعة الوقت تواضعا لله؛ ليقتدى به في ذلك ائتساء بعمر بن الخطاب إذ جعل يغسل الاحتلام من ثوبه حتى أسفر، فقال له عمرو بن العاص: أصبحت ومعنا ثياب فدع ثوبك يغسل، فقال: واعجبا لك يا ابن العاص! إن كنت تجد ثيابا أفكل الناس يجد ثيابا، والله لو فعلتها لكانت سنة، بل أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أر. فقد كان أتبع الناس لسيرته وهديه في جميع الأحوال، وأيا ما كانت فهي منقبة جليلة وفضيلة عظيمة لا تستغرب منه، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

.مسألة المستحاضة ينقطع عنها الدم في غير أيام حيضتها:

وسئل عن المستحاضة ينقطع عنها الدم في غير أيام حيضتها، فقال: إذا انقطع عنها الدم اغتسلت وصلت. قال: وسألته عن المستحاضة تصلي صلاتين بوضوء واحد، أتعيد الصلاة؟ فقال: لا، قلت له: في الوقت ولا في غير الوقت؟ قال: لا تعيد في الوقت. قلت: أفيتوضأ لكل صلاة؟ فقال: ذلك أحب إلي، ولا أدري أواجب ذلك عليها أم لا.
قال محمد بن رشد: قوله: إذا انقطع عنها الدم، يريد دم الاستحاضة الذي كانت تصلي به. وقوله: اغتسلت وصلت، يريد اغتسلت استحبابا وصلت كما كانت تصلي قبل انقطاعه، وذلك معلوم من مذهبه ومذهب جميع أصحابه. وسواء كان انقطاعه في غير أيام حيضتها أو في أيام حيضتها، إذ لا فرق بين الموضعين، فمالك لا يرى على المستحاضة غسلا إلا في أول أمرها بعد الاستظهار أو بلوغ الخمسة عشر يوما، ويستحب لها الوضوء لكل صلاة، فإن صلت صلاتين بوضوء واحد لم تعد، وقيل: إنها تعيد الآخرة في الوقت، حكى القولين ابن المواز عن مالك. ومن أهل العلم من يوجب عليها الغسل لكل صلاة، ومنهم من يوجبه من طهر إلى طهر، ومنهم من يوجب عليها أن تغسل للظهر والعصر غسلا واحدا، وللمغرب والعشاء غسلا واحدا، على ما جاء في ذلك من الآثار، وبالله التوفيق.

.مسألة المرأة تخرج من البحر عريانة أتصلي قائمة:

وسئل عن المرأة تخرج من البحر عريانة، أتصلي قائمة؟ قال: نعم في رأي، إلا أن يراها أحد.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأنها مأمورة بالصلاة قائمة مستقبلة القبلة، وقد سقط عنها بعدم الثياب ما يختص بالصلاة من فرض ستر العورة عن عيون من سوى الآدميين، فوجب أن تصلي قائمة إلا أن يراها أحد، كما لها أن تغتسل في الفضاء قائمة إلا أن يراها أحد.

.مسألة يتعمد إسقاط آية من قراءته في الصلاة:

وذكر يحيى بن سعيد «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى صلاة ترك في قراءته آية، فلما انصرف قال للناس: ما أنكرتم من قراءتي شيئا؟ فقيل: نعم، فكأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يجرب حفظ الناس» قال مالك: «وكان أسيد بن الحضير وهو أحد النقباء يصلي فاضطرب فرسه اضطرابا شديدا، فنظر ما يزعرها فلم ير شيئا، فرفع رأسه إلى السماء فرأى شيئا يظله، فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: تلك الملائكة استمعت لقراءتك.
»
قال محمد بن رشد: قوله: فكأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يجرب حفظ الناس، هو تأويل من الراوي ليس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعلى القول بتصحيحه يجوز للرجل أن يتعمد إسقاط آية من قراءته في الصلاة، فعلى هذا لا ينبغي أن يفتى في الصلاة من أسقط في قراءته شيئا من القرآن أو خرج من سورة إلى سورة، وإلى هذا ذهب ابن حبيب، خلاف ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله لأبي بن كعب حين أسقط آية من سورة الفرقان: «ما منعك أن تفتح علي؟ قال: خشيت أنها نسخت، قال: فإنها لم تنسخ». وفيه أيضا دليل على صحة ما ذهب إليه مالك من أن الذي يقرأ السجدة وهو على غير وضوء أو في غير وقت صلاة يختصرها، والصواب أن يختصر جملة الآية لا موضع ذكر السجود خاصة، على ما حكى عبد الحق عن بعض شيوخه؛ لأنه إذا فعل ذلك لم يتسق الكلام وتغير معناه، وقصة أسيد بن الحضير هذه وقعت هاهنا مختصرة، وهي في المصنفات بكمالها، من ذلك قوله فيها: فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فعرجت إلى السماء حتى لم أرها. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم»، ثم قال: «لقد أوتيت يا أسيد من مزامير آل داود»، يعني حسن الصوت، وهذه كرامة عظيمة لأسيد بن الحضير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلا أنها وما كان مثلها على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنما هي ببركة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهي معدودة من آياته ومن جملة معجزاته. وفي القصة التحريض على تفريغ البال لاستماع القراءة؛ ولذلك أدخلها مالك عقب حديث يحيى بن سعيد، وبالله التوفيق.

.مسألة يكون له ثوب واحد أترى أن يعقد طرفيه إذا صلى لئلا يسقط عنه:

وسئل عن الذي يكون له ثوب واحد، أترى أن يعقد طرفيه إذا صلى لئلا يسقط عنه؟ قال: لا بأس بذلك إذا لم يكن له غيره ولم يكن محرما، فإذا كان محرما فلا يفعل، وإن كان له ثوب غيره فأحب إلي أن يأخذ ثوبا آخر أوسع منه، وأحب إلي أن يتزر ويتردى إذا وجد، وكل من لم يجد فيجزئ عنه ما وجده.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن السنة في الصلاة في الثوب الواحد إذا لم يكن قميصا أن يخالف بين طرفيه على عاتقيه، فإن شاء رد طرفيه بين يديه، وإن شاء تركهما على عاتقيه، فإن لم يثبت لقصره إلا أن يعقده عقده، إلا أن يكون محرما فلا يعقده، وليتزر به؛ لأن العقد للمحرم مكروه، وإن قصر عن أن يعقده على قفاه فليتزر به، ولا شيء عليه في صلاته مكشوف الظهر والبطن إذا لم يجد، فإن صلى كذلك وهو يجد فقد أساء ولا إعادة عليه، وقيل: يعيد في الوقت. وقد مضى ذلك في صدر هذا الرسم والاختيار إذا وجد ألا يصلي في أقل من ثوبين وإن لم يكن في جماعة الناس.

.مسألة يريد أن المصلي بالمدينة يستقبل من البيت الميزاب:

وقال: يقال: إن قبلة المسجد مسجد رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ قبالة الميزاب.
قال محمد بن رشد: يريد أن المصلي بالمدينة يستقبل من البيت الميزاب؛ لأنه هو الذي يتفق، فليس في هذا معنى يشكل.

.مسألة آكل الثوم أيكره له المشي في السوق:

قال: ولقد سألت مالكا عن آكل الثوم أيكره له المشي في السوق؟ فقال: ما سمعت ذلك إلا في المسجد، فقلت له: أرأيت من يأكل البصل والكراث أيكره له من دخول المسجد ما يكره من الثوم؟ فقال: لم أسمع ذلك إلا في الثوم، وما أحب له أن يؤذي الناس.
قال المؤلف: في قوله: ما سمعت ذلك إلا في المسجد، دليل على أنه لا حرج عنده على آكل الثوم في المشي في الأسواق، وإن كره له ذلك في مكارم الأخلاق. والوجه في ذلك أن النهي إنما ورد في المسجد، وله حرمة يختص بها دون الأسواق؛ لقول الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور: 36]، ولما جاء من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن تنظف وتطيب، فلم يصح قياس الأسواق عليه في منع آكل الثوم من دخوله، وأما قياس الكراث والبصل على الثوم في منع آكلها من دخول المسجد فصحيح إن كانت تؤذي رائحتها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نص على أن العلة في الثوم هي الإذاية، فوجب أن يعتبر بها حيثما وجدت، وذلك بين من مذهب ابن القاسم في رسم أوصى من سماع عيسى. وعلى هذا يجب أن يحمل قول مالك؛ لأن قوله: وما أحب له أن يؤذي الناس، تجاوز في اللفظ، ومراده به ما يجوز له أن يؤذي الناس؛ لأن ترك إذاية الناس من الواجب لا من المستحب، وبالله التوفيق.

.مسألة ينسى الظهر ثم يذكرها وهو في العصر مأموما:

قال: وسألته عن الذي ينسى الظهر ثم يذكرها وهو في العصر، يصلي لنفسه ليس مع الإمام؟ فقال: يتم ركعتين ثم ينصرف فيصلي الظهر ثم يصلي العصر. قيل له: وإن كان إنما أحرم في العصر قط؟ فقال: نعم يتم ركعتين.
قال محمد بن رشد: قال في هذه الرواية: إنه يتم ركعتين ولا يقطع، ركع أو لم يركع، وكذلك لو ذكر صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة مكتوبة لأتم أيضا ركعتين ركع أو لم يركع. وفي المدونة أنه يقطع ما لم يركع، وسواء على مذهبه فيها ذكر وهو في العصر صلاة الظهر من يومه أو صلاة قد خرج وقتها. وقد قيل: أنه يقطع أيضا في المسألتين جميعا ركع أو لم يركع، قاله مالك في أحد قوليه في المدونة في النافلة، ولا فرق بين النافلة والفريضة في القياس. وقد قيل: إن الفريضة في هذا بخلاف النافلة، فيقطع في النافلة ركع أو لم يركع، ولا يقطع في النافلة ركع أو لم يركع، وقد قيل: إنه إن كان معه ركعة أتم ركعتين، وإن كان لم يركع شيئا أو ركع ثلاث ركعات قطع، وهو اختيار ابن القاسم في المدونة. وفرق ابن حبيب بين أن يذكر الظهر في العصر أو المغرب في العشاء، وبين أن يذكر صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة، فقال: إنه إن ذكر الظهر في العصر أو المغرب في العشاء قطع، ركع أو لم يركع، كان مع الإمام أو وحده، وإن ذكر صلاة قد خرج وقتها وهو في صلاة تمادى إن كان مع الإمام، وإن كان وحده أتم ركعتين ركع أو لم يركع. وقد قيل: إنه إن كان في خناق من الوقت قطع ما لم يركع، وإن يكن في خناق منه تمادى وإن لم يركع، فيتحصل في المسألة من الاختلاف سبعة أقوال. وهو كله اختلاف اختيار؛ إذ لا يتعلق بمن فعل شيئا من ذلك حكم عند من رأى خلافه إلا انتقاص الفضيلة. وقد قيل: إنه يخرج من قطع عند من رآى أن يتم ركعتين؛ لقول الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، ويخرج من أتم ركعتين عند من رأى أن يقطع؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها»، فإن الله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، فصار من أخر الصلاة المنسية عن وقت ذكرها فيه بالتمادي على التي ذكرها فيها آثما، والأول أظهر أنه لا يأثم بدليل «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى ركعتي الفجر يوم الوادي بعد أن طلعت الشمس قبل أن يصلي الصبح». وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلافهم فيمن ذكر صلاة، وهو في صلاة فتمادى عليها حتى أتمها، أو ذكرها فبدأ بالتي حضر وقتها قبلها، هل يعيد أبدا أو في الوقت؟ وأما من فرق بين أن يذكر الصلاة وهو في صلاة أو قبل أن يدخل فيها، فوجهه اتباع ظاهر ما جاء من أن من ذكر صلاة وهو في صلاة فسدت عليه الصلاة، وهو حديث مروي، وبالله التوفيق.

.مسألة يتنفل فيتعيا بالقرآن أفيقف فيفكر أو ينصرف يسلم وينظر:

وسئل عن الذي يتنفل فيتعيا بالقرآن، أفيقف فيفكر أو ينصرف يسلم وينظر؟ قال: يتفكر تفكرا خفيفا يتذكر ولا يسلم. ولكن يخطرف ذلك أو يستفتح بسورة أخرى.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن القرآن كله حسن سواء، فما قرأ منه كفى وأجزأ، قال الله عز وجل: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، فإذا تعايا في قراءته تذكر يسيرا؛ لأن التذكر الكثير يخرجه عن الإقبال على صلاته، فإن ذكر وإلا خطرف أو استفتح بسورة، إذ ليس موالاة القراءة بواجب، فقد جاء أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسقط آية من قراءته ليجرب حفظ الناس وإن شاء ركع وسجد، ولا يسلم لينظر؛ إذ لا ينبغي لأحد أن يقطع صلاته إلا من ضرورة، قال الله عز وجل: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. ولو كان المصحف إلى جنبه ونظر فيه وتمادى على صلاته لكان قد أساء ولم يكن عليه شيء، وجائز للذي لا يحفظ القرآن أن يصلي في المصحف، والفرق بين الموضعين أن الذي يشك في الحرف إذا نظره في المصحف احتاج إلى فتش موضعه، فكان ذلك شغلا في صلاته، والذي يصلي في المصحف يفتحه قبل أن يدخل في الصلاة، ويجعل أمامه الموضع الذي يريد أن يقرأه في صلاته، فينظر من غير أن يشتغل بشيء إلا بتحويل الورقة التي أكمل قراءتها، وذلك يسير.

.مسألة الذي يركع فيتطأطأ جدا:

وسئل عن الذي يركع فيتطأطأ جدا، فقال: ما ذلك بحسن، وأحسن الركوع اعتدال الظهر، لا يرفع رأسه جدا ولا يخفضه جدا وينصب قدميه أحسن.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال، فقد جاء أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كان إذا ركع لو وضع على ظهره ماء لاستقر».

.مسألة دخول الكنائس للصلاة والأكل فيها:

قال: سمعت نافعا يذكر أن عمر بن الخطاب صنع له طعام بالشام في كنيسة، فأبى أن يجيب إليه وكره دخول الكنائس وقال: لا أرى أن يصلى في الكنائس. قال: وسئل عن الصلاة في الكنائس، فقال: لا أحب أن يصلى فيها إذا وجد غيرها، هي نجس، قد دعي عمر بن الخطاب إلى طعام بالشام في كنيسة فلم يأته وقال: أرى أن لا تدخل هذه الكنائس التي فيها الصور.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم في هذه المسألة، فتأمله هناك.